منشآت عراقية بنيت بأيد أجنبية فنادق بغداد بين الماضي والحاضر (١-٢)

بقلم _ د. صلاح عبد الرزاق
بعد تأسيس المملكة العراقية واتصالها بالعالم الخارجي وتدفق السياح والتجار والباحثين والدبلوماسيين على بغداد ، كانت أغلب فنادق العاصمة متواضعة في البناء والأثاث والخدمات. وبقيت فنادق بغداد عبارة عن طابق ثاني فوق المحلات التجارية كما في شارع الرشيد وشارع السعدون وغيرها. فكانت بلا مدخل أرضي ولا استقبال ولا مطعم أو مقهي ولا قاعات اجتماعات أو أية خدمات أخري بل مجرد غرف مصفوفة في كل منها عدة أسرة مع حمام مشترك. وكانت الغرف تطل على الشارع ولها شرفة وشبابيك. ولا تزال هذه الفنادق موجودة لحد الآن.

عبق الماضي
في ثلاثينيات القرن العشرين بدأت الحاجة لبناء فنادق راقية تليق بالضيوف والزوار القادمين إلى بغداد والمدن الكبرى كالبصرة. ففي البصرة قامت الإدارة الانكليزية عام ١٩٣١ ببناء فندق شط العرب إلى جانب مطار البصرة. وكان أول فندق خمس نجوم في البصرة وجنوب العراق والخليج في وقته. وقد نزلت فيه شخصيات عالمية وملوك ورؤساء. وكان محطة دولية في المنطقة آنذاك. في عام ٢٠٠٣ اتخذته القوات البريطانية مقراً لها. 

من أقدم الفنادق العصرية هو فندق تيگرس پالاس  TIGIRIS PALACE HOTEL أو قصر دجلة الذي تم إنشاؤه في بداية الثلاثينيات. قام بتصميمه المهندس أحمد مختار إبراهيم (١٩٠٨-١٩٥٨). وقد زينه بزخارف وتماثيل وزهور وسلالم مزدوجة. كما كان لكل غرفة شرفة تطل على نهر دجلة. وفيه قاعات للطعام والاجتماعات وكافتيريا بأثاث جميل. 
في عام ١٩٣٢ قام الفيلسوف والشاعر الهندي طاغور (١٨٦١-١٩٤١) بزيارة إلى العراق. وقد حظي باستقبال شخصيات سياسية وأدبية على رأسهم الملك فيصل الأول ومجموعة من الشخصيات السياسية  أمثال السيد محمد الصدر، وجعفر باشا العسكري ومحمد بهجة الاثري، ومعروف الرصافـي وجميل صدقي الزهاوي ونوري ثابت صاحب جريدة (حبزبوز) وغيرهم من الوجوه المعروفة آنذاك. وكان طاغور أول شخصية حائزة على جائزة نوبل في الآداب (١٩١٣) يزور العراق.
وقد تم اختيار فندق تيگرس پالاس لاقامة طاغور وزوجة ابنه والوفد المرافق له، حيث قضى عشرة أيام. وأقام نادي المعلمين حفلة عشاء لطاغور في إحدى قاعات الفندق بدعوة من وزير المعارف عبد الحسين الجلبي. وألقى فيها محاضرة عن التعليم الحر. كما زار طاغور دار المعلمات في بغداد وألقى بعضاً من قصائده. في الأول من حزيران ١٩٣٢ غادر طاغور ومرافقوه إلى كلكتا من مطار بغداد على متن طائرة هولندية. 
وبعد عودته إلى الهند وصف طاغور رحلته في كتاب نشره بعنوان (رحلة إلى بلاد فارس والعراق).

وفي فندق تيگرس بالاس أقامت الكاتبة الإنكليزية أجاثا كريستي (١٨٩٠- ١٩٧٦). وتوجد صورة لها في شرفة غرفتها بالفندق وهي تتناول الشاي. وخلا اقامتها في بغداد كتبت قصتها (لقاء في بغداد) أو They came to Baghdad . وقد نشرت لأول مرة في ٥ آذار ١٩٥١. وتتناول القصة اختيار بغداد لعقد اجتماع سري يضم قادة الدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن هذه المعلومة تسربت فوصلت إلى منظمة سرية تسعى إلى إفشال هذه القمة. تصف كريستي أجواء الشارع البغدادي آنذاك وتصرفات الباعة وصياح المشاة (بالك، بالك) وكتبتها بالانكليزية. كما تصف الحيوانات المستخدمة المختلط بضجيج السيارات ومنبهاتها. ومن الواضح أن الكاتبة تجولت في بغداد وشوارعها وأسواقها ، وتعرف عن قرب على السكان وعاداتهم ولهجتهم. 
( تـبـدأ الـرّوايـة بـخـروج الـكـابـتـن كـروسـبي مـن أحـد الـمـصـارف: والـشّـارع الّـذي كـان فـيـه الـكـابـتـن كـروسـبي يـدعى بـشـارع الـبـنـوك في وسط العاصمة بغداد لأنّ أغـلـب بـنـوك الـمـديـنـة تـقـع فـيـه. وكـان في داخـل الـبـنـك شـيء مـن الـبـرودة والـعـتـمـة، أو بـالأحـرى شيء مـن الـعـفـونـة. وكـانـت ضـربـات عـدد كـبـيـر مـن الآلات الـكـاتـبـة تـتـعـالى في خـلـفـيـتـه. أمّـا في خـارجـه، فـقـد كـانـت الـشّـمـس حـارّة. وكـان الـغـبـار الـمـتـطـايـر يـمـلأ شـارع الـبـنـوك، وكـانـت الـضّـوضـاء فـيـه شـديـدة مـتـنـوعـة الـمـصـادر: أصـوات الـمـنـبـهـات الـمـلـحّـة، وصـيـاح بـاعـة الـسّـلـع الـمـخـتـلــفـة. وكـان هـنـاك مـشـاجـرات حـامـيـة بـيـن أعـداد مـن الـنّـاس يـبـدو عـلـيـهـم أن بـعـضـهـم عـلى وشـك قـتـل الـبـعـض الآخـر ولـكـنـهـم كـانـوا في الـحـقـيـقـة أصـدقـاء أحـبّـاء، وأعـداد مـن الـرّجـال والـصّـبـيـان والأطـفـال يـبـيـعـون كـلّ أنـواع الـنـبـاتـات والـحـلـويـات والـبـرتـقـال والـمـوز والـمِـنـشـفـات والأمـشـاط وأمـواس الـحـلاقـة وسـلـع أخـرى يـدورون بـهـا في الـشـوارع عـلى صـواني. وكـان هـنـاك أيـضـاً أصـوات تـنـحـنـح الـنّـاس الـمـسـتـمـر وبـصـاقـهـم، ويـعـلـو فـوق ذلـك كـلّـه عـويـل سـوّاق الـحـمـيـر والـخـيـل الـمـقـهـور الـمـرتـفـع الـنّـبـرات في وسـط هـديـر الـسّـيّـارات وصـيـاح الـمـشـاة : بـالـك! بـالـك ! Balek ! Balek ). لقد كـانـت الـسّـاعـة الـحـاديـة عـشـرة صـبـاحـاً في مـديـنـة بـغـداد. ولقد أوقـف الـكـابـتـن كـروسـبي صـبـيـاً كـان يـركـض بـسـرعـة وعـلى ذراعـه حـمـولـة جـرائـد واشـتـرى واحـدة مـنـهـا. وبـعـد أن خـرج مـن شـارع الـبـنـك دخـل في شـارع الـرّشـيـد، وهـو شـارع بـغـداد الـرّئـيـسي، يـخـتـرقـهـا عـلى مـدى أربـعـة مـايـلات (سـتّ كـيـلـومـتـرات ونـصـف تـقـريـبـاً) مـحـاذيـاً نـهـر دجـلـة. وألـقى الـكـابـتـن كـروسـبي نـظـرات سـريـعـة عـلى عـنـاويـن أخـبـار الـجـريـدة، ووضـعـهـا تـحـت إبـطـه. وبـعـد أن سـار حـوالي مـائـتي يـاردة (183 مـتـراً تـقـريـبـاً) استدار لـيـدخـل في درب ضـيّـق يـفـضي إلى خـان أو حـوش كـان في جـانـبـه الـمـقـابـل بـاب عـلـيـه لافـتـة نـحـاسـيـة دفـعـه فـانـفـتـح داخـلاً في مـكـتـب. ونـهـض مـوظـف شـاب عـراقي طـويـل نـظـيـف ومـهـنـدم مـن وراء آلـتـه الـكـاتـبـة واتـجـه نـحـوه مـبـتـسـمـاً مـرحّـبـاً “.
ويـدخـل الـكـابـتـن كـروسـبي في مـكـتـب مـسـتـر داكـيـن. ونـعـرف أنّ الـكـابـتـن كـروسـبي وصـل إلى بـغـداد عـائـداً مـن كـركـوك، وأنّ هـمّـه وهـمّ الـمـسـتـر داكـيـن كـان مـراقـبـة اجـتـمـاع سـرّي سـيـعـقـد في بـغـداد. وتـسـاءل الـكـابـتـن كـروسـبي هـل يـنـوي الـدّكـتـاتـور الـكـبـيـر (ويـعـني بـه رئـيـس قـوّة أوربـيـة عـظـيـمـة) أن يـأتي إلى بـغـداد. ونـعـرف أنّ كـارمـايـكـل Carmichael وجـد مـعـلـومـات بـعـثـهـا عـن طـريـق صـلاح حـسـن Salah Hassan بـشـفـرة سـرّيـة.
وبـعـد أن تـركـه الـكـابـتـن كـروسـبي هـمـس مـسـتـر داكـيـن لـنـفـسـه : (لقد جـاءوا إلى بـغـداد They Came to Baghdad.  ) وعـلى ورقـة رسـم دائـرة كـتـب تـحـتـهـا (بـغـداد) وحـولـهـا خـطـط صـورة جـمـل وطـائـرة وبـاخـرة وقـطـار صـغـيـر يـنـفـث دخـانـاً تـتـجـه كـلّـهـا نـحـو الـدّائـرة. وفي زاويـة رسـم شـبـكـة عـنـكـبـوت وكـتـب في وسـطـهـا آنـا شـيـل Anna Scheel ، ووضـع تـحـتـهـا عـلامـة اسـتـفـهـام كـبـيـرة). 
ونقل بعض الباحثين أن المطربة المصرية زارت بغداد عام ١٩٣٢ وقدمت ١٢ حفلة غنائية في مسرح الهلال أو (تياترو الهلال) كما كان يسمى. ويقع الهلال في سوق الهرج في الميدان وأقامت هي وفرقتها الموسيقية ١٢ حفلة. وقد نزلت أم كلثوم في غرف مخصصة للضيوف في مسرح الهلال. وكان قد وصلت بغداد بالطائرة في ١٧ تشرين الثاني ١٩٣٢ ولقيت استقبالا من شخصيات عراقية على رأسهم الشاعر معروف الرصافي في مطار الوشاش (مطار المثنى) في الكرخ. 

فندق بغداد ربع قرن على عرش الفنادق
في منتصف الخمسينيات بدأ إنشاء فنادق الدرجة الأولى في العاصمة بغداد حيث تم بناء فندق بغداد عام ١٩٥٦ وافتتح عام ١٩٥٨ بطوابقه الستة المطلة على نهر دجلة وشارع آبي نؤاس٫ ومن الجانب الآخر على شارع السعدون التجاري. 
يضم الفندق ١٦٠ غرفة مكيفة، ولكل منها شرفة تطل على نهر دجلة. ويحتوي الفندق على أكثر من عشرة أجنحة رئاسية فاخرة، وغرف خاصة بالعرسان. ويضم المطعم والمقهى البغدادي وقاعات للمناسبات والاجتماعات ذات ٣٥٠ شخصاً وأقلها ٥٠ شخصاً. ويوجد مسبح ونادي صحي وحلاق ودكاكين للتحف والهدايا. 
بقي فندق بغداد يحتل الصدارة منذ انشائه وحتى عام ١٩٨٠ حيث بدأ إنشاء الفنادق الحديثة ذات الخمس نجوم. وكان ضيوف العراق وزوار العاصمة الكبار يقيمون فيه باعتباره أفضل الفنادق. فقد نزل فيه زعماء سياسيون وقادة ودبلوماسيون وممثلو منظمات دولية وشخصيات فنية وأدبية وغيرهم. 
ففي عامي ١٩٦٤ و ١٩٦٥ أقام فيه مجموعة من الفنانين المصريين على رأسهم عبد الحليم حافظ أثناء زيارتهم لبغداد حيث أقيمت حفلتان في بغداد، ليومي الثلاثاء 9 و الخميس 11 حزيران 1964 في سينما النصر؛ دعما لصندوق فلسطين. وكان ذلك في عهد الرئيس عبد السلام عارف فغنوا وأنشدوا للقومية العربية والوحدة العربية ولجمال عبد الناصر، بعد عام على انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ واعدام عبد الكريم قاسم ورفاقه. 
ورافق عبد الحليم حافظ كل من نجاة الصغيرة، محمود عبد المطلب، فائزة احمد، فائدة كامل، كارم محمود، شريفة فاضل، لبلبة، محمد قنديل، هدى سلطان، صباح، فهد بلان، مها صبري، محمد عبد المطلب، سميرة توفيق، محمود شكوكو، أحمد غانم، ثريا حلمي، إسماعيل ياسين. وعريف الحفل الممثل حسن يوسف. كما حضر الحفل الممثلات أمينة رزق ومريم فخر الدين. 
نقل الحفل تلفزيون بغداد على الهواء مباشرة، لتضطر يومها الشرطة الى غلق شارع السعدون مرات عديدة، بسبب تزاحم الحاضرين من رجال ونساء على الحضور ليصل الامر بالمعجبين أن يقفوا طوابير امام الباب الرئيسة لفندق بغداد الذي سكنه الوفد الفني ومعه عدد كبير من الموسيقيين الكبار. 

المصادر 
- موسوعة ويكيبيديا
- موسوعة شذرات المطر – رائد جعفر مطر
- صحيفة الصباح في ٢٩ نيسان ٢٠١٩
- ملاحق المدى في ٧ نيسان ٢٠١٩

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق